انشغلتُ سنوات طويلة في علم الكلام الجديد، وقرأتُ وسمعت البلبلة والغموض والتشويش والالتباس في تعريفه، وتحديد مفهومه وموضوعه وأركانه ومرتكزاته، فأدركت الحاجة الماسة لتأليف مقدمة تحدد الإطار العام لهذا العلم، وتضع المعيار الذي يمكن اعتماده في تصنيف هوية المتكلم والكلام الجديد، وتوفر للباحثين والدارسين في علم الكلام وفلسفة الدين خارطة طريق ترسم المعالم الأساسية للكلام الجديد.
ينطلق هذا الكتاب من رؤية تبتني على أنه ما دام هناك إنسان فهناك أسئلة ميتافيزيقية كبرى، وهذا النوع من الأسئلة لا جواب نهائيًَا له، وهو ما يقوله لنا تعدد وتنوع إجابات الفلاسفة واللاهوتيين والمتكلمين المتواصلة لهذه الأسئلة، وتجددها في مختلف مراحل تطور الوعي البشري، وفي منعطفات الفكر الفلسفي واللاهوتي والكلامي.
يبدأ علم الكلام الجديد بإعادة تعريف الوحي بنحو لا يكرر تعريفه في علم الكلام القديم كما هو. اقترحتُ في هذا الكتاب معيارًا يمكن على أساسه أن نصنف مفكرًا بأنه متكلم جديد، ويتمثّل هذا المعيار في كيفية تعريف المتكلم للوحي، فإن كان التعريف خارق سياق مفهوم الوحي في علم الكلام القديم، يمكن تصنيف قوله كلامًا جديدًا، لأن طريقة فهم الوحي هي المفهوم المحوري الذي تتفرع عنه مختلف المسائل الكلامية، ومن أبرزها مسألة الكلام الإلهي وغيرها من مقولات كانت موضوعًا أساسيًا لعلم الكلام القديم. إن كيفية تعريف الوحي والنبوة والقرآن يتفرع عنها ويعود إليها كل شيء في الدين، لا يبدأ تجديد فهم الدين إلا بإعادة تعريف هذه المفاهيم المحورية الثلاثة، في سياق متطلبات الإنسان اليوم للمعنى الديني، واحتياجه لما يثري حياته الروحية والأخلاقية والجمالية. إن كل من يقدم تفسيرًا جديدًا للوحي، بشرط أن يكون مؤمنًا بمصدره الميتافيزيقي، يمكن أن يُصنف تفسيره على أنه علم كلام جديد. أما من يقدم تفسيرًا للوحي، لكنه لا يؤمن بالله، يمكن أن يكون فيلسوف دين لأن المتكلم غير فيلسوف الدين، فيلسوف الدين يفكر خارج إطار الدين، أما المتكلم فيفكر في إطار الإسلام، كاللاهوتي في كل دين الذي يفكر في إطار ذلك الدين، وإن كان يستعير مناهج بحثه مما أنجزته العلوم والمعارف البشرية.