Beschreibung
ثاني كتب السلسلة يتماس مع واقعنا العربي المعاصر؛ كتاب يتسم بالجدة والعمق في آن واحد بحكم موضوعه ومؤلفه، بل وبحكم مترجمه أيضًا. إذ بداية من عنوانه “فوكو في إيران”، نجد أنفسنا أمام حدث تاريخي أكثر منه مؤلفًا أو تنظيرًا، ويتأكد الحدس عندما نتعرف على مؤلفه بهروز قمري تبريزي؛ وهو رجل متخصص في علم الاجتماع السياسي ويرأس مشروع بحثي كبير في واحد من أرقى المراكز البحثية على مستوى العالم؛ “معهد برينستون للدراسات المتقدمة”، أما الموضوع فهو الثورة الإسلامية في إيران وموقف المفكر الفرنسي الشهير ميشيل فوكو منها.
عبر مناقشة جدلية مثيرة للنقد والتفنيد، يناقش البروفيسور الإيراني الأصل الماركسي التوجه أسباب انحياز فوكو للثورة الإسلامية رغم أنها تصطدم بكل ما مثله الأخير في حياته من نزعة فلسفية تعادي الدين، لماذا يتحمس مفكر وفيلسوف مثل فوكو إلى ثورة رفعت راية الإسلام كصيغة واحدة ووحيدة لإمكانية النجاح والانتصار، كذلك يناقش المؤلف ردود أفعال الإنتليجينسيا الغربية على فوكو والاتهامات التي ألصقوها به خاصة بسبب موقف الثورة من المرأة.
لم يكن الحدث عاديًا، ولم يكن فوكو أي مفكر، وعلى نفس المستوى جاء التناول، فالمؤلف ليس بالباحث السهل، إذ نجد أنفسنا أمام رواية دقيقة مفصلة لمشارِك، لا لمُنًظر، لمحلل لا لمتفرج، فهو يتناول في تحليل تاريخي شائق وجدلي موقف فوكو من الشاه ومن الخميني، ومن فلسفة التنوير الأوربية التي كثيرًا ما انتقدها فوكو في عموميتها وسطحيتها وكيف أن الثورة الإيرانية أتت لتمثل له لحظة فارقة وبيانا عمليا على ضحالة التنوير ومثاليته المضحكة. يسعد القارئ برواية موثوقة عن يوميات الثورة من منظور فوكو ومن منظور نقاده، يسعد كذلك باستعراضه للحراك النسوي العالمي لتحرير نساء لم يطلبن تحريرًا، يستعرض وحدة صف الثوار التي أذهلت فوكو، يناقش كذلك صمت فوكو عما رآه الأخرون ردةً للثورة، ثم صمت فوكو النهائي بعد ذلك عن التعليق على ما حدث من تداعيات ولماذا. يفند المؤلف هذا كله بموضوعية تامة حتى وإن مثلًت في بعض تجلياتها في ثنايا الكتاب ابتعادًا عما يتبناه المؤلف نفسه من أيديولوجية؛ يقف معه فيها القارئ على محك سؤال عن مدى إمكانية التحالف بين اليسار والدين في مواجهة إمبريالية مهيمنة تتشح بوشاح الليبرالية للتعمية على أهدافها. الجميل في الكتاب كذلك هو مترجمه إلى اللغة العربية؛ فهو رجل صاحب مشروع فكري مستنير وله ترجمات مهمة مثلت علامات كبيرة في مشروع الثقافة العربية عبر السنوات العشرين الفائتة، وهو الأستاذ ربيع وهبة، إذ هو نفسه من المنتمين إلى النهج الماركسي الأممي، ويحمل مثله مثل مؤلف الكتاب هم مطلب العدالة والتحرر للإنسان أمام الهيمنة. أتت ترجمته على مستوى الطرح القيم الذي يمثله الكتاب إضافة إلى مقدمة صافية ربت على الثلاثين صفحة في صدر الكتاب تمثل في حد ذاتها دراسة وافية عن واقعنا العربي المعاش بأزماته الفكرية في تلك المرحلة المفصلية. أخيرًا ينبغي الإشارة إلى فرحة المؤلف الكبيرة بصدور ترجمة عربية حقيقية للكتاب، ولذا أولى هذه الترجمة عناية خاصة وزينها بمقدمة كتبها خصيصًا لها.