شرق عدن غرب الله

21,00 

In stock

“أعرف بأنني رغم كل ما فعلته لها ولأجلها، لن تعيد لي بلاطة من أزقتها، أو غصناً من غوطتها، إنها مدينتي وأنا أعرفها، ولذلك سأشرب من ينابيعها، بكل ما أستطيع دون ظمأ، وآكل من طعامها فوق طاقتي دون جوع، وأعبّ من هوائها بكل قواي دون علة، لأسترد بعضاً من حقوقي عليها، آه… فلتذهب حقوقي وحقوقها إلى الجحيم، المهم… كيف أنساها؟ أنام على جنبي الأيمن: نوافذها وشرفاتها، على الأيسر: مطابخها ومناورها، أتمدد على ظهري: سماؤها، ولكن متى توفرت الرغبة بالانتقام، فأدواته لا تحصى، سأترك وحلها على حذائي، وغبارها على ثيابي، لأسيء إلى سمعة كتّابها، سأرش شواعها وملاعبها بالمسامير، وأرشد القمل إلى رؤوس أطفالها، والريح الثلجية إلى عظام عجائزها، واليأس إلى نفوس شبابها، وأمزق ما تطاله يدي من موسوعاتها ومجلدات آدابها وعلومها ووقائع أيامها وأطارد طلابها وقططها في الشوارع، وأنهر متسوليها على الأبواب، وأنقض الحبر على خرائطها وطرق مواصلاتها، وأحطّم مصابيحها في الظلام، وأنزع حتى اللحاء عن غاباتها في الشتاء، لا لأنني ساديّ دموي وشرير، بل لأنني مللت النوم كل ليلة، وأنا مرتاح الضمير”. إذا ما كانت سماء الشعر العربي الحديث قد سطعت بكثير من النجوم، فإن مأثرة محمد الماغوط تكمن في كونه ضوء الانفجار الكبير الذي سبق في ظهوره كل تلك النجوم. يقرع الماغوط ناقوس الشعر على طريقة راهب حزين، يفرغ على صنجاته كل اشتهاءاته، ثم يترك حباله تسترخي بانتظار حزن جديد… لقد أفاقت عبقرية الماغوط على أهازيج الأحلام الطوباوية، والتعلل بالسرابات البراقة والاتكاء على أوهام خادعة، قذفت بالإنسان العربي خارج أرصفة التاريخ، لذا فقد جاء شعره شاهداً على زمانه، وناقماً على كل ما يحيط به من مغبات الخيبات، ومهاوي الانحطاط، بهذياناته، وبجنونه، بأحلام يقظته وتنبؤاته التي كشفت بعد أعوام أنها كانت البرق الذي ينذر بالمطر. يمتاز أسلوب الماغوط بالتركيز والتكثيف وبإبداع عفوي يفوق حدود النقد، ويعتمد لغة الصورة، وقد استطاع أن يترجم حلمه بأن يكون بمقدور كل إنسان أن يفهم ويحس ويتذوق الشعر، خاصة إذا ما تنسم فيه عبير الحرية والحب والخير والعدالة والسلام.

Description

“أعرف بأنني رغم كل ما فعلته لها ولأجلها، لن تعيد لي بلاطة من أزقتها، أو غصناً من غوطتها، إنها مدينتي وأنا أعرفها، ولذلك سأشرب من ينابيعها، بكل ما أستطيع دون ظمأ، وآكل من طعامها فوق طاقتي دون جوع، وأعبّ من هوائها بكل قواي دون علة، لأسترد بعضاً من حقوقي عليها، آه… فلتذهب حقوقي وحقوقها إلى الجحيم، المهم… كيف أنساها؟ أنام على جنبي الأيمن: نوافذها وشرفاتها، على الأيسر: مطابخها ومناورها، أتمدد على ظهري: سماؤها، ولكن متى توفرت الرغبة بالانتقام، فأدواته لا تحصى، سأترك وحلها على حذائي، وغبارها على ثيابي، لأسيء إلى سمعة كتّابها، سأرش شواعها وملاعبها بالمسامير، وأرشد القمل إلى رؤوس أطفالها، والريح الثلجية إلى عظام عجائزها، واليأس إلى نفوس شبابها، وأمزق ما تطاله يدي من موسوعاتها ومجلدات آدابها وعلومها ووقائع أيامها وأطارد طلابها وقططها في الشوارع، وأنهر متسوليها على الأبواب، وأنقض الحبر على خرائطها وطرق مواصلاتها، وأحطّم مصابيحها في الظلام، وأنزع حتى اللحاء عن غاباتها في الشتاء، لا لأنني ساديّ دموي وشرير، بل لأنني مللت النوم كل ليلة، وأنا مرتاح الضمير”. إذا ما كانت سماء الشعر العربي الحديث قد سطعت بكثير من النجوم، فإن مأثرة محمد الماغوط تكمن في كونه ضوء الانفجار الكبير الذي سبق في ظهوره كل تلك النجوم. يقرع الماغوط ناقوس الشعر على طريقة راهب حزين، يفرغ على صنجاته كل اشتهاءاته، ثم يترك حباله تسترخي بانتظار حزن جديد… لقد أفاقت عبقرية الماغوط على أهازيج الأحلام الطوباوية، والتعلل بالسرابات البراقة والاتكاء على أوهام خادعة، قذفت بالإنسان العربي خارج أرصفة التاريخ، لذا فقد جاء شعره شاهداً على زمانه، وناقماً على كل ما يحيط به من مغبات الخيبات، ومهاوي الانحطاط، بهذياناته، وبجنونه، بأحلام يقظته وتنبؤاته التي كشفت بعد أعوام أنها كانت البرق الذي ينذر بالمطر. يمتاز أسلوب الماغوط بالتركيز والتكثيف وبإبداع عفوي يفوق حدود النقد، ويعتمد لغة الصورة، وقد استطاع أن يترجم حلمه بأن يكون بمقدور كل إنسان أن يفهم ويحس ويتذوق الشعر، خاصة إذا ما تنسم فيه عبير الحرية والحب والخير والعدالة والسلام.