يوميات الملل الثوري

7,50 

Out of stock

”وكم في الثورة من محبطات، الحقيقة أنّ قليلًا من الثورة يكفي. تكفي الرمزية، أو على الأقل مجازًا. الوقائع ثقيلة، والتتابع اليومي اللاهث لا تتحمله خلاياي التالفة أصلًا. لا يحتملُ جهازي العصبي ذلك الهدر البطيء، المستمر للطاقة، فأنا مستنزف ويَمرُّ اليوم العادي عليّ بحسابات الندم على كل خلية خسرتها. كل سيجارة تُخرّب ميلليمترًا جديدًا من الرئة، كل بول دافق بوتيرة أقل، كل نَفَس محشرجة بعد دفقة من الحماس المرتبط دائمًا بانبجاسة. والثورات ثقيلة بخاصرتها غير المكتملة، بأفعوانات تفاصيلها المراوغة، وأراجوزات عرضها العام. أما الجمهور فأُعاديه، أُعادي ما في الكلمة من روح قطيع مضمرة. أنا لا أُفلِح إلا على مائدة لا تزيد على ثلاثة أشخاص، نتبادل فيها لوثة العقل على مشروب مترع. فحتى في لحظات احتشاد الميدان، كان البحث عن صديق منجاة من غربة الأكتاف الموحدة، مارشات الهتاف التي تحتاج إلى “سنّيدة”، ومنذ اتخذت قرارًا بالكفر بالجماعة، وأنا لا أثق إلا بالحروف وبلاغتها. لا أعوّل إلا على ما تُضيفه كلماتي في كتاب مفتوح. أكره السياسة باجتماعاتها وإجماعها، حتى حين أتحدث فيها. تعجبني الثنايا، ما في بدائية أهلها من علاقة بوثائقيات الناشيونال جيوجرافيك، وما في نجومها وصناعتهم من تكرار ممل لخطوط التصنيع المميكنة. “الملل الثوري”، سأكتب عنه كعرض دائم، مثلما كان الملل من الاستبداد مقيمًا في الكتابة هنا لنحو 11 عامًا، يبدو أن الملل وحده هو الدافع الحقيقي للكتابة، فالوجود المستقر العصيّ على خدش وقائعه هو موت للخيال. عن صحراء الخراء التي فشخ واقعها الخيال كنت مستعدًا في كتابة هذا النص إلى استعمال المخيلة أكثر من الوقائع والمعلومات، بل كنت أتمنى ذلك عن طيب خاطر، لكن “الواقع فشخ الخيال” كما يقول الناس منذ بداية الثورة، وما تخيلناه حين كان غطاء البالوعة يسمى دولة أو سلطة، قد انفجر في وجوهنا خراءً مقيمًا، بل إن الخراء هطل علينا أمطارًا مدرارة دون توقف. هل ما زال للخيال موقع في هذه الهسترات الواقعية جدًا، الراسخة جدًا، يبقى الخيال إذا في مجرد حكي ذلك، على شاكلة كل الأساطير، الفارق أن لأساطيرنا رائحةً عفنةً وملمسًا لزجًا. هاني درويش (1974-2013) وُلد في القاهرة، وتخرّج من كليّة التربية جامعة عين شمس. عمل في بداية حياته المهنية مُدرسًا للجغرافيا، ثم ما لبث أن ترك التدريس للعمل الصحفي، فتنقل بين عدة مؤسسات صحفية وإعلامية من بينها التلفزيون المصري، وروز اليوسف، وأخبار اليوم، وجريدة البديل. كما كان مراسلًا لعدد من الصحف العربية منها جريدة الحياة، وجريدة المستقبل اللبنانية، وموقع المدن الإلكتروني. وفي الأخيرين بالذات تفتحت ملكاته الكتابية راصدًا أحوال القاهرة وتقلباتها السياسية والاجتماعية والثقافية. صدر له كتاب “إني أتقادم” عن الكتب خان للنشر عام 2014.

Description

”وكم في الثورة من محبطات، الحقيقة أنّ قليلًا من الثورة يكفي. تكفي الرمزية، أو على الأقل مجازًا. الوقائع ثقيلة، والتتابع اليومي اللاهث لا تتحمله خلاياي التالفة أصلًا. لا يحتملُ جهازي العصبي ذلك الهدر البطيء، المستمر للطاقة، فأنا مستنزف ويَمرُّ اليوم العادي عليّ بحسابات الندم على كل خلية خسرتها. كل سيجارة تُخرّب ميلليمترًا جديدًا من الرئة، كل بول دافق بوتيرة أقل، كل نَفَس محشرجة بعد دفقة من الحماس المرتبط دائمًا بانبجاسة. والثورات ثقيلة بخاصرتها غير المكتملة، بأفعوانات تفاصيلها المراوغة، وأراجوزات عرضها العام. أما الجمهور فأُعاديه، أُعادي ما في الكلمة من روح قطيع مضمرة. أنا لا أُفلِح إلا على مائدة لا تزيد على ثلاثة أشخاص، نتبادل فيها لوثة العقل على مشروب مترع. فحتى في لحظات احتشاد الميدان، كان البحث عن صديق منجاة من غربة الأكتاف الموحدة، مارشات الهتاف التي تحتاج إلى “سنّيدة”، ومنذ اتخذت قرارًا بالكفر بالجماعة، وأنا لا أثق إلا بالحروف وبلاغتها. لا أعوّل إلا على ما تُضيفه كلماتي في كتاب مفتوح. أكره السياسة باجتماعاتها وإجماعها، حتى حين أتحدث فيها. تعجبني الثنايا، ما في بدائية أهلها من علاقة بوثائقيات الناشيونال جيوجرافيك، وما في نجومها وصناعتهم من تكرار ممل لخطوط التصنيع المميكنة. “الملل الثوري”، سأكتب عنه كعرض دائم، مثلما كان الملل من الاستبداد مقيمًا في الكتابة هنا لنحو 11 عامًا، يبدو أن الملل وحده هو الدافع الحقيقي للكتابة، فالوجود المستقر العصيّ على خدش وقائعه هو موت للخيال. عن صحراء الخراء التي فشخ واقعها الخيال كنت مستعدًا في كتابة هذا النص إلى استعمال المخيلة أكثر من الوقائع والمعلومات، بل كنت أتمنى ذلك عن طيب خاطر، لكن “الواقع فشخ الخيال” كما يقول الناس منذ بداية الثورة، وما تخيلناه حين كان غطاء البالوعة يسمى دولة أو سلطة، قد انفجر في وجوهنا خراءً مقيمًا، بل إن الخراء هطل علينا أمطارًا مدرارة دون توقف. هل ما زال للخيال موقع في هذه الهسترات الواقعية جدًا، الراسخة جدًا، يبقى الخيال إذا في مجرد حكي ذلك، على شاكلة كل الأساطير، الفارق أن لأساطيرنا رائحةً عفنةً وملمسًا لزجًا. هاني درويش (1974-2013) وُلد في القاهرة، وتخرّج من كليّة التربية جامعة عين شمس. عمل في بداية حياته المهنية مُدرسًا للجغرافيا، ثم ما لبث أن ترك التدريس للعمل الصحفي، فتنقل بين عدة مؤسسات صحفية وإعلامية من بينها التلفزيون المصري، وروز اليوسف، وأخبار اليوم، وجريدة البديل. كما كان مراسلًا لعدد من الصحف العربية منها جريدة الحياة، وجريدة المستقبل اللبنانية، وموقع المدن الإلكتروني. وفي الأخيرين بالذات تفتحت ملكاته الكتابية راصدًا أحوال القاهرة وتقلباتها السياسية والاجتماعية والثقافية. صدر له كتاب “إني أتقادم” عن الكتب خان للنشر عام 2014.