الوصف
أوبرا الناي السحري أثر مصر القديمة على الموسيقى والفنون الأوربية هناك سـؤال مثار عـن تصنيـف هـذه الأوبرا: مـا هـي طبيعـة أوبرا “الناي السحري” في حقيقة الأمر؟ وصفها “بيتر فون مات” بأنهـا ثالـث أكبـر عمـل مـلـيء بالألغـاز فـي “ثقافتنـا الأوروبية” إلـى جانب هاملت لشكسبير وموناليزا لليوناردو دافنشي. نقـل موتسارت وهـو العضـو بمحافـل فيينا الماسونية أحداث الأوبرا إلـى مـصـر كمـا يتصورهـا فكر الماسونية. ندلـف في هذا الكتـاب مـع يـان أسـمـان عـالم المصريات الشهير إلـى عـالـم الماسونيين ومحافلهــم المختلفـة حيث جذوا في البحث لأنفسـهـم عـن “جـذور” فـــي التاريخ، ووجدوها فـي مصـر القديمـة. طـور المصريـون ثلاث مؤسسات لأغـراض السرية التي أجبروا عليها تحسبا لتقلبـات الزمـان، وهـذه المؤسسات هـي: الفـن الـذي بنـوه تحت الأرض والكتابة الهيروغليفية التـي لا يمكـن لغيـر المطلعيـن عـلـى الأسـرار أن يقرأوهـا، بالإضافة إلى طائفة سرية كانـت مهمتها رعايـة ونقـل حقيقة ” ألغاز إيزيس”. كتـاب ينقلنـا بـين مـصر القديمة والفنـون الأوروبية في القرن الثامـن عـشر قبـل فـك رمـوز الهيروغليفية.
كثيرون يعرفون من هو يان أسمان، إذ ربما هو عالم المصريات الأكثر ترجمة إلى اللغة العربية، صدر له في التسعينات “ماعت، إلهة العدل في مصر القديمة” ثم توالت الترجمات فقرأنا له موسى المصري، والتفرقة الموسوية ثم الذاكرة الحضارية، وكذلك الموت والخلود في مصر القديمة.
لعل السبب وراء كثرة ترجمات أسمان إلى العربية هو طابعها الثقافي الواسع الذي يخرج من ضيق التخصص مخاطبًا المثقفين عمومًا، فأسمان مشغول بصفة أساسية بقضية فلسفة الدين في معناها الكبير، والعلاقة بين دين مصر القديمة والأديان السماوية على وجه الخصوص، والتأثير المصري القديم بصفة عامة على الفكر الأوروبي ثقافة وسياسة.
يناقش أسمان هنا مسألة مهمة في هذا الكتاب وهي استمرار أثر مصر القديمة في تيار الوعي العام الأوروبي على مدار التاريخ وكيف أن استمر من زمن الإغريق والرومان حتى عصور النهضة والتنوير الأوروبي وما بعده. تعد أوبرا الناي السحري دليلًا جيدًا على هذا الأمر، فموتسارت كتب ألحانها حتى قبل فك رموز الهيروغليفية ورغم هذا تجد التأثير المصري طاغيًا عليها.
يبحر بنا يان أسمان في عالم الطبقة الراقية لصالونات فيينا الإمبراطورية، حيث النبلاء والمثقفون فيها يضمون أنفسهم في مجامع فكرية ويعتبرون أن للعلم درجات وهم في قمتها، واقتداء بمصر القديمة نظروا لأنفسهم على أنهم ورثة العلم “الإلهي” الذي يتم توارثه من جيل إلى جيل، ولما كان العلم في مصر القديمة قاصرًا على أيدي كهنتها ولم يكن مشاعًا للشعب لأنه أمر شديد الخطورة أن يمتلك الجهلاء العلم. نعرف من استعراض أسمان لمجامع فيينا الماسونية أنه كي يسمح لأحد أن يدخل إلى تلك المجامع، فإنه عليه أن يجتاز اختبارات “الجودة” والصلاحية.
كان هناك إذن تواجد كبير لمصر القديمة في هذه المجامع الفكرية التي بحثت لنفسها عن جذور في مصر القديمة ورأت نفسها امتدادًا لطائفة الكهنة هناك، فنجد حكايات عن إيزيس وعن إله الشر سيت، ثم نجد استعراضًا كبيرًا لفكرة المعمار والتشييد وأسراره ولا ريب في هذا فمصر القديمة مثلت بمبانيها الضخمة الصامدة على مر العصور لغزًا كبيرًا امام العلماء خاصة في عصور النهضة الأوروبية.
بعدها يدخل أسمان إلى تحليل العمل الأوبرالي نفسه ويدهش المرء، إذ يجد نفسه أمام عالم متخصص في الموسيقى يناقش تفاصيلها ولماذا لجأ إلى هذا اللحن هنا ولماذا استعمل هذا المقام هناك وكيف ارتفع بالتون هنا ولأي غرض درامي “يخدم” هذا المقطع الفكرة وهكذا وهو تحليل موثق بالنوت الموسيقية وبمشاهد مصورة من الأوبرا ومن ديكور خشبة المسرح، حتى ليخرج القارئ في النهاية وهو أمام وجبة ثقيلة من المعرفة الموسيقية بالأوبرا وبتجهيزات خشبة مسرحها، بالشغب والملاسنات بين العاملين فيها.
الكتاب صغير الحجم، متعدد التخصصات، ففيه تاريخ أوروبي ومصري قديم، فيه موسيقى ومصريات، وفيه فنيات العمل الدرامي الأوبرالي وكيف كانت تجري آنذاك.
ترجمة الكتاب كانت مهمة صعبة بسبب تعقيد المصطلحات الكبيرة التخصص. ومع ذلك، استطاع الأستاذ كرم النويشي الذي يتمتع بمعرفة واسعة في مجال الموسيقى والألحان، أداء هذه المهمة ببراعة وثقة. قدم ترجمة هادئة ورائقة وأظهر تفهمًا عميقًا للمصطلحات الصعبة دون تجاهل أي منها ولم يتهرب من أي تحدي وتعامل مع الكتاب بدقة واحترافية.