يتشابه ثلاثة من عظماء العالم في قوة الروح، ولطف الحس، وسعة الأفق، والثورة على القديم، وفي التطلع إلى بناء مجتمع إنساني مثالي، وإن اختلفت أداة التعبير عند كل منهم. فالأول دانتي أليجييري، الذي أراد في “الكوميديا” أن يقيم عالماً جديداً، أساسه العدالة والحرية والنظام والوحدة، والتطهر والصفاء والحب والأمل. والثاني مايكل أنجلو بوناردني، الذي عبر في تماثيله الشاهقة وصوره الإلهية عن بناء عصر جديد، تسوده القوة والحرية، والصدق والذوق الرفيع. والثالث لودفيج بيتهوفن، الذي هدف في الحانه الرائعة إلى إقامة عالم مثالي، قوامه الحق والفن والحرية والسلام. خرج ثلاثتهم من الأسى والشجن بالصبر عليها، وظفروا بالإبداع، وحلقوا في أجواء الفن الرفيع ربما لم يصل إليه غيرهم، صوروا الطبيعة، ورسموا الإنسان، ووصفوا الأرض والسماء بالقلم والريشة والإزميل واللحن، وأخرجوا للإنسانية روائعهم الخالدة.عاش دانتي أليجييري في النصف الثاني من القرن الثالث عشر، والربع الأول من القرن الرابع عشر، في عهد بدأت العصور الوسطى تُخْفض فيه أشرعتها، وينبثق خلاله فجر عصر جديد، عهد شهد ظهور اليوتوبيات، وتمثلت فيه آثار الماضي ووميض المستقبل. وقد سنحت الفرصة لدانتي للإلمام بعلم ما بعد الحياة عند المسلمين بطريق غير مباشر، مما كان معروفاً لدى علماء الغرب، في العصر الذي عاش فيه. ومن وحي هذه المعرفة ومن خلال الترجمات التي قرأها للنصوص الإسلامية حول عالم الآخرة جاءته فكرة “الكوميديا الإلهية” حيث كانت بمجملها تصويراً لما بعد الحياة.
ويلحظ القارئ بأن أقرب الشبه بين دانتي والإسلام قائم في بعض الصور القرآنية، وبعض آراء المفسرين، وبعض أفكار المتصوفين الإشراقيين كابن عربي عن بعض صور “الجحيم والمطهر والفردوس”. وإذا كان في “الكوميديا” أوجه شبه بما سبق دانتي من الأفكار عن عالم ما بعد الحياة، منذ أقدم العصور حتى زمنه فإنها تختلف وتتميز ببنائها وتفصيلاتها ومضمونها وهدفها، وصحيح أن دانتي استخدم المادة التي وصل إليها، في عالم الآخرة، كما في سائر فروع العلم والمعرفة، واقتبس من هنا وهناك، وتأثر بهذه الناحية وتلك، إلا أنه أضاف، وحوّر، وغيّر، ولوّن، ونظّم، وفاض بفنه الرائع في بناء “الكوميديا”.
والكوميديا نوع فريد من الشعر، وليس لها نظير فيما سبق وفيما تلا من القصائد الطويلة، من ناحية بنائها العام، ومضمونها الشامل المنوع، وهدفها في الدنيا والآخرة. ويمكن أن تسمى “الدانتيادة” على غرار تسمية “ألياذة” هوميروس، و”أنيادة” فرجيليو. وينتظمها العدد ثلاثة، رمز الثالوث المقدس. وهي تنقسم ثلاثة أناشيد: “الجحيم والمطهر والفردوس”. و”الجحيم” مقسمة إلى مدخل وتسع حلقات، و”المطهر” مقسم إلى تسعة أفاريز والفردوس الأرضي، و”الفردوس” مقسم إلى تسع سماوات وسماء السماوات. ويتكوّن كل نشيد من ثلاث وثلاثين أنشودة، يضاف إليها مدخل “الجحيم”، فتصبح كلها مائة أنشودة، أي مربع رقم عشرة، وهو العدد الكامل، ورمز الوحدة واللانهاية في العصور الوسطى. وأبياتها ثلاثيات، وكان دانتي أول من ابتدع طريقتها، وأناشيدها متقاربة الطول، وأقسامها الثلاثة متساوية الطول على وجه التقريب، وتبلغ “الجحيم” 4710 أبيات، و”المطهر” 4755، و”الفردوس” 4758؛ ومجموعها 14233 بيتاً.
و”الكوميديا” رحلة خيالية إلى عالم الآخر، استغرقت في نظر أغلب النقاد سبعة أيام، وبدأت في مساء الخميس ليلة الجمعة 7-8 أبريل سنة 1300 وانتهت يوم الخميس 14 أبريل، واستغرقت زيارة دانتي “للجحيم” حوالي ثمان وأربعين ساعة، وزيارة “المطهر” أربعة أيام، واستغرقت زيارة “الفردوس” نهاراً واحداً، وكان الزمن الباقي للعبور بين الجحيم والمطهر والفردوس.
وفي مقدمة هذه الترجمة للكوميديا الإلهية التي بين أيدينا قدم المترجم وصفاً عاماً للعصور الوسطى، وتحدث عن البيئة التي نشأ فيها دانتي، متناولاً حياته وشخصيته، مشيراً إلى بعض مؤلفاته الصغرى، وإلى أصول الكوميديا الإلهية، ومميزاتها العامة ذاكراً شيئاً عن بعض ترجمات الكوميديا، وعن الدراسات الدانتية، في أنحاء من العالم. وفي مقدمة ترجمته للمطهر تناول المترجم بعض أصول المطهر، مع وصف عام له، متحدثاً عن شيء من فن دانتي في المطهر، وعن دانتي في المطهر، وعن فرجيليو في الجحيم والمطهر، وعن بياتريتشي في المطهر، وذلك لتقريب دانتي والجحيم إلى القارئ العربي، لأن هذا يساعده على الاقتراب من الفردوس وفهمه، حيث عنى المترجم في هذا القسم “الفردوس” باستهلاله بمقدمة تاريخية أدبية مطولة، تلاها متن الترجمة مصحوبة بألوف من الشروح والحواشي: في اللغة، والأساطير، والتاريخ، والأدب، والعلم، والفنون التشكيلية، والفنون الموسيقية، وفي آخره موجز لمضمون الأناشيد. وقد توفر المترجم على هذا العمل ثمان وعشرين سنة، ولم يأل جهداً في التردد على مناهج الفن والأدب والعلم في إيطاليا وفرنسا وإنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية.